Friday, August 22, 2008

صرصور مايو الأخضر

مايو-أغسطس 2008

إلى: ألكسندرا
*******

اليوم الأول؛ منزل أدهم

دخلت أشعة الشمس فى بطء دافىء إلى الغرفة ؛ أحس بها و فتح عينيه فى بطء معتاد؛ أخذ نفس عميق ثم أخذ نفس أخر كانه يشم شىء؛ و تأوه فى إشمئزاز؛ فتح الشباك؛ أدار إسطوانة بيلى هوليدى ثم ذهب إلى المطبخ لإعداد القهوة و تناول أى شىء؛ قبل إشعال سيجارته و ما أن إنتهى من شرف القهوة حتى أشعل سيجارته فى ألية.

محدثاً السيجارة : لما يقولون إنك مضرة؟ حتى ولو كنت؛ بغض النظر؛ يجب على المرء أن يتذكر دائماً الأشياء الجميلة الصغيرة فى حياته؛ حتى و لو كانت حياته مملة و روتينية بعض الشىء...هممممم.

أمسك بقلمه الرصاص و مدونته فكر قليلاً ثم كتب:

إن الإختيارات التى نقررها فى حياتنا هى التى تحدد المنعطف الذى سننحدر إليه وبالتالى لا تلوم إلا نفسك أو تباركها؛ أى كان الأمر فهو منك و إليك؛ أعنى القرارات و عواقبها. توقف لحظة عن الكتابة؛ أخذ نفس من السيجارة فى قوة و سرعة؛ ثم عاود.

لا تستدر عطف الأخرين عليك؛ أو لا تجمعهم حول بضعة مقاعد و منضدة فى ليلة قمرها ينتصف السماء مع بضعة كئوس من الخمر و تشرع فى روى قصتك؛ إلا إذا أردت أن تنام مع فتاة حياتها مليئة بالتساؤل و تجد للأسف أن قصتك هى القصة التى يمكن أن تصف حياتها؛ أو أسوأ؛ قصتك هى قصة أحلامها.
بعد أن تنام معك؛ ستخبرك بأنها لم تفعل هذا من قبل؛ أعنى النوم مع أحد بالكاد تعرفت عليه؛ لكن إعلم يا صديقى أنت لست دون جوان؛ أنت فقط دون!!!

محدثاً نفسه: لا..لا..سأغير الموسيقى؛ أريد أن أستمع إلى موسيقى بحته. غير الإسطوانة و وضع بدلاً منها رخمانينوف الثانى..هذا أفضل! ثم عاود النوم مرة أخرى.

*****
فى المقهى

جلس الرجل العجوز على مائدته المعتادة؛ مقعدبن و منضدة؛ هذه هى البقعة الوحيدة فى هذا المقهى التى يمكن أن تصفها بالميتة؛ لا أحد يريد أن يجلس هنا سواه؛ ربما لأن هذه البقعة مرتبطة بذهن الزوار المعتادين و العابرين على حد سواء بهذا الرجل العجوز؛ فالكل رسم صورة مقيتة لهذا العجوز.

جاء النادل بمعطفه الأبيض البراق ممسكاً بالصينية الفضة؛ حاملاً شرابه المعتاد.

النادل: تفضل.
العجوز: شكراً

قبل أن يستدير النادل؛ أراد أن يسأل العجوز عن سر جلوسه الدائم فى هذه البقعة؛ كان بداخل النادل الشاب بعض الرهبة طوال الوقت من سؤال العجوز فقد تعلم ألا يتدخل فيما لا يعنيه؛ ربما لأن الحزن فى عينيه كان أقوى من أن يمس؛ لكن واتته الشجاعة ليسأل:

النادل: أريد أن أسألك يا سيدى سؤال؛ لما تجلس هنا طوال الوقت؟
العجوز: هل تعلم أن منذ بضعة من الوقت؛ كان من السهل أن تجد الكثير من المقاهى و البارات؛ جميع هذه الأماكن كان يرتادها المحبين للحياة؛ سواء أن كانوا صعاليك أم فنانين؛ فقراء أم ميسورى الحال؛ كان الكل يتغنى بالحياة و للحياة.....

مقاطعا: و لكن الآن يوجد مقاهى أكثر. لاحظ إنه قاطع العجوز فنظر إلى الأرض فى خشوع.
لم يأبه العجوز بنظرته فإستطرد: هذه المقاهى التى تتحدث عنها؛ أصبحت مطاعم وجبات سريعة؛ سخيفة؛ ما أتحدث عنه كان لديهم عرف؛ العرف هو إرتداء البذة كلما أردت الدخول؛ إحساس الجمال الصخب. هل أجبتك؟

النادل: بصراحة....لا...أعنى...

قاطعه العجوز فى ثورة ساكنة : أنا أتردد على هذا المكان لأن أغلب هذه المقاهى و البارات تحولت إلى محال أحذية؛ لا أعلم لماذا؟؟؟ لا أتذكر أن الشعب كان مجموعة من الحفاة؛ و ما أن رأوا هذه المحال حتى تحول الجميع إلى نبلاء !!

مقاطعا فى ذروة: أعنى يا سيدى؛ لماذا تجلس فى هذه البقعة بالتحديد؟

العجوز : لأنها بقعتى المفضلة!

أومأ النادل برأسه؛ إبتسم؛ ثم ذهب إلى منضدة أخرى ليلبى الطلبات.

*****
مكتب رائف
أدهم: ما رأيك؟
نظر رائف إلى أعين أدهم قليلاً ثم قال: أدهم؛ كناشرك و صديقك أولاً؛ أعتقد إنك يجب أن تأخذ بعض من الوقت لتستريح.
أدهم: لماذا؟

صمت قليلاً ثم تنهد: أشعر بأنك بدأت أن تفقدها؛ أعنى الخيوط التى تريط شخصياتك ببعضها البعض؛ قد تكتب عدة صفحات لكى تقول جملة واحدة و هذا إطناب زائد عن الحد؛ بجانب هذا؛ أنت تتعمد أن تضيف إلى شخصياتك جزء كبير منك أو فى بعض الأحيان تكون شخصياتك مرآة لك و هذا ليس بالضرورة شىء صحى؛ أعنى ككاتب! و لذلك إذهب إلى الساحل أو الريف؛ عائلة زوجتى تمتلك فيلا فى الساحل....

أدهم: شكراً! سأذهب الآن إلى المنزل؛ مع السلامة. أدار ظهره له ثم مشى فى خطوة عسكرية تجاه الباب؛ فتحه و أغلقه فى عنف.

*****
رائف: ألم أقل لك؟ الساحل به هدوء صاخب؛ قد تكون إبتعدت عن المدينة؛ لكن صوت البحر و الليل رغم صخبه؛ يساعدك على الهدوء؛ (رافعاً صوته) أليس كذلك يا حبيبتى؟

الزوجة: لا تقلق الطعام سيكون معد فى خلال نصف ساعة على الأكثر.

ضحك رائف: لا فائدة..كأنك تحدث نفسك ( مكملاً ضحكته؛ ثم إستطرد: ماذا كنت أقول؟ اه.....؛ تذكرت الآن؛ هل قرأت المسرحية الأخيرة لكاظم قرف؛ أقصد شرف ( ضاحكاً بقوة)؟

أدهم: لازلت أفضل المدينة؛ أغلب البشر يفضلون الذهاب إلى هذه الأماكن كالساحل و الريف....إلخ لكن حيث توجد المدينة؛ يوجد البشر؛ و حيث يوجد البشر؛ تجد الشهوة؛ الخطيئة؛ المأسة؛ البحث عن السعادة هذا بجانب مقتى الشديد لذوى....

الزوجة مقاطعة بإبتسامة: علمت أنكم ستريدون الشراب؛ فكما أرى؛ لقد أوشك على الإنتهاء.

أدهم: شكراً لك يا أيتها العزيزة.

رائف: زوجتى العزيزة؛ إسمعى ما يقوله صديقك و صديقى...

الزوجة: و ما يقوله صديقى؟

أدهم فى خجل أو ربما تعب من الكلام: لا شىء !

رائف مع إبتسامة: أدهم؛ لا تكن خجول!

الزوجة: أدهم؛ أنت تعلم إننى لا أحب المماطلة؛ أو الذهاب و الإياب على لا شىء؛ تحدث يا أشعث ( بإيتسامة صافية) أتتذكر هذا الإسم؟ ( ضحكة)

أدهم: هممممممم؛ لقد كنت أتحدث عن السعادة و كيفية سير الإنسان المستمر تجاه الأمام؛ دون توقف؛ سواء للراحة أو لإعادة النظر؛ حتى أصبح هذا الإنسان يعيش فى هذيان مستمر؛ أملاً فى البحث عن السعادة و لكنها فى الحقيقة وهم جميل؛ فقط فى البداية و يصبح ممل مع مرور الوقت؛ و الأدهى؛ يسارع لكى يتحدث عنها و يعظ الأخرين إليها؛ فلنأخذ على سبيل المثال.....

رائف فى صرامة: لم تكن تتحدث عن هذا!!

الزوجة فى إضطراب: الطعام على وشك الإنتهاء؛ خمس دقائق فقط. ذهبت إلى المطبخ.

رائف: ما بك؟ لم تكن تتحدث عن هذا! ليس كونى صديقك يجعلك تستغل حياتى الشخصية فى سمرك!!!

أدهم فى سخرية: هذا جزاء من لا يعيرنى إنتباهه.

معتاداً على سماع هذا الجدال؛ فغير الحديث: هل قرأت مسرحية كاظم شرف الأخيرة ؟ إعتدت على أن بعد أن أنتهى من القراءة بأن أشعر لبضعة لحظات بأننى أذكى من ذى قبل؛ و لكن مع هذا المدًعى؛ لم أستطيع حتى تكملة هذه المسرحية.

أدهم : لماذا تعتبره مدًعى؟ لأنه يكتب عما يجيش بصدره؟ لأنه يحاول أن ينير طريقنا؟

رائف: لا..لا يا صديقى العزيز؛ لأن كتابته مليئة بالسخرية القميئة؛ لأنه...و لما أبرر نفسى؛ لا..سأبرر نفسى؛ لأنه يعظنا كقراء؛ دعنى أشرح لك؛ إن الإنسان؛ على شاكلة هذا الكاتب؛ لكائن أنانى؛ يريد أن يتبع خطى الأولين محققاً بذلك الكمال و الصلاح؛ ناسياُ كان أو متناسياً أن الحياة خلقته مختلف تمام الإختلاف عن الأخرين و ما ينتج من ذلك عن فكر و طباع و عادات و تقاليد و أن ما قد يصلح فى الحياة هو النمو بالفكر و الروح بغرض الوصول لأعلى درجة ممكنة من درجات السمو؛ و ما يدعو إليه هذا الكائن هو العودة لهذا الطريق و للأسف لا يقولها صراحةً و لكنها يصبغها بصبغة المسرح السياسى و يسموا هذا التيار للأسف تيار ما بعد العولمة! و للأسف مرةً أخرى هذا هو حال كتابنا هذه الأيام!

الزوجة من على بعد: الغذاء جاهز.

*****
المستشفى

الرجل العجوز مع إبتسامة: هل تسمحى لى بهذه الرقصة؟

الممرضة من على بعد: إنظرى لهذا العجوز! يريد أن يرقص مع عجوز مثله؛ إنه لمثير للشفقة!
الممرضة الثانية: أفضل من أن يدعونا نحن للرقص!!!
الممرضة الأولى: متصابى!

المرأة: و لكن؛ لا أعلم كيف أرقص! هذا بجانب عدم وجود موسيقى!
الرجل العجوز بإبتسامة واسعة: أيهم؟ لا يهم يا صغيرتى؛ أنا أيضاً لا أعلم كيف أرقص؛ لكنى أشعرها!

ثم جذبها تجاهه فى قوة ولكن ببساطة؛ وضع يده اليسرى فى يديها اليمنى و شابك أصابعهما فى لطف؛ ثم بدأوا فى الرقص؛ تعثرت فى البداية فبدأ فى توجيهها: واحد؛ إثنان؛ ثلاثة؛ أربعة؛ بالظبط؛ واحد؛..........

إلتفت عجوز أخر تجاههما؛ ثم أخر؛ فأخرى؛ نهضوا من على مقاعدهم؛ بدأوا يرقصون مع أنفسهم؛ ثم تقاربوا فى دائرة حولهما؛ مبتسمين و محركين أيديهم فى إيقاع مع رقصهم.

الممرضة من على بعد: يبدوا أن هؤلاء الاشقياء جُنٌو.لا يمكن السكوت على هذا أبداُ؛ هذا دار مسنين محترم و ليس مستشفى للمجانين!!!
الممرضة الثانية: سأذهب للدكتور!!!

*****
ثلاث سنوات سابقة؛ مكتب رائف

تترجل الفتاة أعلى السلالم بطريقة طفولية و ما أن تصل حنى ترى رائف منهمك فى الحديث مع إحدى العملاء على التليفون.

رائف: هممممم...ألم أفل لك يا سيد كاظم من قبل؛ الرقابة لن توافق على نشر كتابك؛ و صدقنى............صدقنى أنا مقتنع بما كتبت بل و أرى إنه أفضل ما كتبت؛ و لولا ذلك لما حاربت من أجل نشره..........بالطبع...

الفتاة مقاطعة: يا سيد رائف.....با سيد رائف...ميعاد الساعة الثالثة وصل!!
رائف بإستنكار: لحظة واحدة....ألا ترى؟؟؟؟ معى تليفون!!! ثم شرع فى تكملة المحادثة....كنت أقول أنا مقتنع بإنه أفضل ما كتبت؛ و لولا ذلك لما حاربت من أجل نشره.....

الفتاة: أنا أسفة!

رائف: ألا ترى؟ اللعنة!....ترجلت الفتاة أسفل السلالم و هى تجيش بالبكاء...أنا أسف يا استاذ كاظم......بالطبع...حسناً؛ لنتحدث غداً......مع السلامة...مع السلامة....أووووووووف (بصوت عالى): أرسلى له يا مارى. و بدأ النظر إلى أوراقه المتراصة على المكتب مقلباً إياه فى عنف.

صعد أدهم أعلى السلم فى يطء مصحوب بالثقة إلى أن وصل إلى أخر درجة و تنحنح: مساء الخير يا سيد رائف.

لازال رائف محملقاً فى الورق أمامه: سمعت عنك من الأستاذ رؤوف ؛ قال لى إنك كاتب ممتاز؛ لم تتح لى الفرصة قراءة كل شىء و لكن؛ أرى أن ما قرأته؛ جيد؛ همممم..عندى بعض الملاحظات..

جلس أدهم فى هدوء: و ما هى؟

رفع عينيه من على الورق ليرى أدهم قد جلس بالفعل؛ إستنكر الفعل: لا تكتب عن هذا النوع من العلاقات البشرية فى قصصك؛ فالأمر أصبح ممل بعض الشىء؛ و القارىء الذكى سيجلس فى ضجر أبدى متمنياُ لحظة النهاية؛ هذا إذا ما كنت محظوظ و القارىء أنهى الرواية؛ لقد ملَ القراء من الحديث عن الخلق و الفرق بين الحظ و المصير و هل الأمر عبارة عن إختيارات أم.......إلخ ؛ بجانب الأمر؛ لن تكون ناجحاً مثلما كان لويجى بيراندلو فى مسرحيته " ست شخصيات تبحث عن مؤلف" ؛ على أية حال....

أدهم مقاطعاَ: أنا لا أسخر من شخصياتى؛ و لا أستخدم محاكاة ساخرة ولا شخصيات متراصفة بغرض المقارنة؛ شخصيات مليئىة بالخطيئة الساخرة و التى يتوجب على تكوينها بغرض الصلاح فى النهاية أو على الأقل إضافة هذا الطريق.

رائف مندهشاً؛ ساخراً و مستمتعاً: تبدو دارساً

أدهم: لماذا تنشر لكاظم شرف؟ أو بمعنى أصح؛ لما بدأت بالنشر له؟

رائف مستغرباً السؤال؛ صمت لحظة: لأن الأستاذ كاظم كاتب عظيم و مهم؛ ببساطة؛ كتاباته جذبت إهتمامى. ثم صمت لحظة: هذا بجانب النجاح الذى لاقته كتابته.....

أدهم مقاطعاً: فى رأى المتواضع؛ أعتقد أن الصدفة هى ما جعلت منه كتاب مشهور و ليس مهم؛ فالقراء يتضائل فهمهم و ثقافتهم بوم بعد أخر؛ قد تكون "الإختيارات" التى حددها القراء بعد ذلك فى نوع الكتب التى يقرؤنها فى رأيهم؛ هى إختيارات ناتجة عن وعى و فهم؛ و بالتالى أدرت أرباح لسيادتك؛ و لذلك لا أعتقد أنك إختارت بقدر ما الصدفة سنحت لك لكى تنتهزها.

رائف فى دهشة و غضب ساكن: ماذا تود أن تقول؟

أدهم فى بساطة و غرور: إن عالم الإختيارات و الحظ و القدر؛ عالم نسبى؛ لم نتوغل فيه بعمق بعد؛ بالإضافة لهذا؛ بعض الحرفة و الكثير من المشاعر و التأمل؛ ربما سنصل إلى الحقيقة!

صمت رائف لحظة؛ نظر فى عينى أدهم الواثقة؛ ثم ضحك فى شدة: لازلت لست مقتنع؛ لكنى إخترت أن أنشر لك؛ قابلنى بعد غد لنناقش تفاصيل النشر.

بإبتسامة: أعتقد بأننى سوف أحظى بالكثير من المرح.

*****
الدكتور محدثاً العجوز: أليس عيباً على رجل فى مثل سنك الرقص؟ لولا تفديرى لإبنك؛ لكنت طردت و على الفور! موجهاً كلامه إلى السيدة العجوز: و أنت؛ طالما كنت سيدة فاضلة؛ أعتقد أن هذا أخر تنبيه لكما! إنصراف!

بدأ الدكتور فى تعنيف الممرضات مع خروج العجوزين؛ أغلق العجوز الباب فى هدوء مع إبتسامة و المرأة تذرف الدموع.

العجوز: لما تبكى يا صغيرتى؟

المرأة: لم نعد صغيرين؛ لا أستطيع تحمل هذا الكلام؛ لم أستطع تحمل هذا الكلام طوال حياتى.

العجوز: هناك مقولة حكيمة: من لا يستطيعوا الفعل؛ يدرسون؛ و من لا يستطيع التدريس؛ يشرفون ( ثم ضحك بصوت عال)؛ إبتسمت المرأة و لازالت الدموع على خديها. ما رأيك يا صغيرتى فى التنزه بالحديقة؟
أومأت بالإيجاب ثم خرجوا.

على الحشيش جلسوا؛ و لأول مرة لاحظ أن بشرتها بيضاء؛ النمش ظهر على وجهها فى سرعة جميلة؛ أضأت الشمس فجأة و جهها فبدا الأمر و كأن جسدها هو الذى أضاء؛ إنقشعت أشعة الشمس تاركة خلفها إبتسامة جميلة.

العجوز: أتعلمى؟ أود لو أحتفظ بهذه اللحظة فى نفسى إلى الأبد
المرأة فى ضحكة: يالك من شاعر!
العجوز بإبتسامة: لست بالضروروة شاعر؛ و لكنى قارىء جيد له. حدثينى قليلاً عن نفسك.
المرأة: و ماذا تريد أن تعرف؟
العجوز بإبتسامة حانية: أى شىء و كل شىء.

المرأة فى تهكم و تذكر للماضى: لا شىء مثير يمكن أن تصف به حياتى؛ بعد ولادتى؛ توفيت أمى بالحمى؛ كان والدى شديد للغاية؛كان تاجر؛ دائم البحث عن أى مصدر للنقود حتى و لو إضطره الأمر للتعامل مع حثالة المجتمع ؛ إلتحقت بمدرسة للراهبات؛ تزوجت فى سن السادسة عشر لتاجر مثله؛ أنجبت ثلاث فتيات؛ توفى؛ كبرت؛ و إلتحقت بدار المسنين كما ترانى و هأنا ذا. و أنت؟

العجوز: و ماذا عن الحب؟

-صمت-

العجوز: و ماذا عن الحب يا صغيرتى؟ ألم تحبى من قبل؟

المرأة: نعم. أحببت من قبل؛ لا أعرف إن كان هذا حب أم لا؛ كان شاب وسيم؛ أعتقد إنه كان طالب بالجامعة. بإبتسامة: كان طويل القامة؛ ناعم الشعر و يدخن البايب؛ كان يجلس دوماً على منضدته المفضلة؛ كنت أراه عندما أخرج من المدرسة كل يوم؛ كنت أقف أمام واجهة المقهى و أنظر له بشغف؛ أتخيله يقبلنى بعاطفة يمتلكها كل البشر أجمعين!

العجوز: و ماذا حدث بعد ذلك؟

-صمت-

المرأة: لأن الطريق من المقهى أطول من المعتاد؛ بدأ أبى فى الشك بسلوكى؛ عنفنى؛ ضربنى؛ و زوجنى!. ثم إنهمرت بعض الدموع على شفتيها.

العجوز فى حب: ما رأيك فى الذهاب للمقهى؟

*****
بعد ثلاثة أشهر؛ منزل رائف

منزل رائف ملىء بالحركة؛ ذهاباً و إياباً يتحرك مدبرى المنزل مع الزوجة ليضعوا اللمسات الاخيرة للإحتفال بتوزيع رواية أدهم الأولى.
الزوجة محدثة واحدة من مدبرى المنزل: ها؛ كم من الوقت نريد لكى ننتهى؟
: عشرة دقائق أخرى يا سيدتى.
الزوجة: أسرعوا إذن.

رائف من غرفة النوم: أسرعى لتساعدنى على ربط الكرافتة؟
الزوجة: حاضر
بعد عدة دقائق؛ بدأ الجميع فى الوصول؛ صاحبى دور النشر؛ الموظفين بدار النشر؛ كاظم شرف و كتاب أخرون

رائف واقفاً مع بعض صاحبى دور النشر؛ يضحك معهم بصوت عال: أتعلمون؟ أول مرة قابلته؛ أخذ يحدثنى عن الحظ و الإختيارات و ما الفرق بينهم...إلخ؛ شباب يافع؛ لا يهم؛ الرواية نجحت و هذا هو ما يهم.

ناشر: سمعت أنه يقامر. فلنلعب معه و نرى كم كان حظه أو إختيارته اللعينة موفقة.
ناشر أخر: أين هو؟
رائف: همممم...أعذرونى أيها السادة. ذهب إلى غرفة النوم باحثاً عن زوجته؛ فتح باب الغرفة فى بعض من القوة: عزة؛ ألم يتصل بعد؟ هذا اللعين! أنا أحب عندما أنظم شىء؛ أنظمه على أكمل وجه!

عزة واضعة اللمسات الأخيرة لمكياجه: لم يتصل بعد.

رائف: كلكم بلا فائدة! خرج و أغلق الباب فى عنف!

نظرت عزة إلى المرآه للحظات؛ ثم أكملت وضع مكياجها.

*****
أغلق رائف الباب مودعاً أخر مجموعة من الحاضرين: اللعنة! لم أحرج كهذا من قبل؛ أنا!! أنا! أضطر للإعنذار هكذا!! و أنهى حفلة قبل أن تبدأ! أنا!!!

عزة: لا عليك با عزيزى..دعك منه؛ ربما جاءه ظرف ما
رائف: اللعنة! لا تقاطعيتى!
عزة: لقد شربت بما فيه الكفاية..هيا ل.....دق جرس الباب. ربما نسى أحدهم شىء؛ فتحت الباب؛صمتت لحظة ثم إنفجر الضحك.

أدهم (بطريقة مسرحية): أحضر أو لا أحضر؛ هذا هو السؤال؛ سواء أن كان من النبل للعقل أن يعانى من الإختيارات اللعينة؛ يحتضن البحار الهائجة بأذرع مفتوحة؛ و بذلك يعانى من الأرق و لا ينام أبداّ.
رائف: ماذا تفعل هنا؟
عزة: رائف!
أدهم: أتيت لأحتفل؛ قبل أن تقاطعنى؛ كنت فى بار أعزف..
عزة: تعزف؟
أدهم: بالطبع يا أيتها العزيزة؛ أعزف الساكسفون؛ و لكن؛ هذا لا يهم؛ ما يهم؛ هو الآن و هنا!
رائف منفجراً: وصلت بك البجاحة لتأتى متأخراً ثلاث ساعات؛ و تأتى مخموراً!
أدهم: المهم؛ هو إننى أتيت؛ ففى الحقيقة؛ أردت أن أحتفل مع أصدقائى فقط و أنتم أصدقائى!

-صمت-

عزة: تفضل يا أدهم؛ المعذرة
أدهم: ألن تدعونى لكأس يا صديقى؟
رائف: أعتقد أن كأس لن يضر؛ و أنا أيضاُ أريد كأس

جلسوا و بدأت عزة فى سكب بعض من الويسكى؛ أخذ رائف كأسه وشربه جرعة واحدة؛ أدهم قلبه ببطء بإصبعه؛ أخذ شرفة منه و نظر إلى عزة باسماً: تبدين فاتنة اليوم يا عزيزتى؛ كفتاة فى فيلم لهيتشكوك.

عزة باسمة: لكن؛ أغلب فتيات هيتشكوك يموتنً فى النهاية.

أدهم (محدثاً رائف): لماذا أنت مضطرب؟
رائف و عزة: ماذا؟
أدهم: من المعروف؛ أن كثيرى الشرب؛ يتناولوا الكثير من الشراب دفعة واحدة؛ ثم القليل على فترات متباعدة؛ و بلطبع؛ الكلاسيكى فى الموضوع؛ هو النسيان؛ على الرغم من تناولك كأسك جرعة واحدة؛ إلا أننى لازلت أعتقد أن شيئاً ما يؤرقك.
عزة بإستنكار: لكن رائف ليس خمورجى!
أدهم بإبتسامة: بالطبع؛ لأن مصطلح خمورجى يطلق على بائعى الخمر لا شاربيه.

-صمت-

قهقه رائف يصوت عالى؛ إستمرت ضحكاته لثوان عدة؛ ثم توقف فجأة.
رائف: لطالما كرهت سخرية ذوى الياقات الزرقاء؛ ثم مضى فى الضحك بصوت أعلى مكملاً: لكن سأستثنى هذه المرة.

أدهم بثورة متمالكة: هذا بالطبع شرف لا أستحقه؛ و لكنها ملاحظة تستحق الإعجاب؛ هذا لأن والدى كان أحد هؤلاء الكادحبن؛ لازلت لا أعرف عن نفسى؛ كل ما أعرفه هو أننى لن أكون من ذوى الياقات البيضاء؛ أقتنى لوحة؛ أولاُ غير أصلية؛ ثانياً لن تكون لوحة كلود مونيه " شروق الشمس" و التى تعتبر علامة تحول إلى المذهب التعبيرى؛ خاصةُ دون أن افهم معناها.

صمت الجميع فجأة؛ رائف و أدهم كلاهما محدق فى أعين الأخر إلى أن تنهد رائف

عزة (محدثة أدهم): أتريد كأس أخر؟
أدهم: شكراً يا عزيزتى؛ سأصبه بنفسى؛ و سأدير إسطوانة أيضاً؛ ماذا تبغى أن تسمع يا صديقى؟
رائف ببرود: لا يهم....لا...أريد أن أستمع إلى فاجنر
عزة: فاجنر! الآن!
أدهم: بربك! ما رأيك فى إديت بياف؟
عزة: نعم؛ لنستمع إلى بياف!
رائف: كما تشائون!

عزة محدثة أدهم: ما قصتك مع الساكسفون؟
أدهم: أحببت موسيقى الجاز منذ الصغر؛ قررت تعلم الترومبت فى البداية؛ لم أستطع بسبب عادة التدخين فتعلمت الساكس؛ كونت فرقة؛ نعزف ما يسمى بموسيقى الجيل الضائع ( بإبتسامة)
عزة يإستغراب: ماذا تعنى؟
أدهم: الجيل الذى إنتابه أرق الغد؛ محاط من كل جهة بالمشاكل الإقتصادية؛ قارىء سىء و خاصة للتاريخ و بالتالى فقد الإحساس بالهوية فتأثر بموسيقى الغرب...
رائف (مقاطعاً): لكن لازال هناك أمل؛ فصار يستخدم لغة بسيطة؛ يعبر بها عن مشاكل الحياة؛ الكلام ساخر و ملىء بالإسقاطات
أدهم يتنهد: بالضبط
عزة: أعلم ما تعنى؛ لكن مع إحترامى الشديد؛ أنا لا أحب هذا النوع من الموسيقى
أدهم و رائف: و لا أنا!

-صمت-

إنفجر الضحك

*****
فى طريقهم تجاه المقهى؛ وقفت المرأة بين الحين و الآخر مشيرة إلى بعض من المحال و المبانى قائلة: أتذكر هذا؛ و ذاك؛ ماذا حدث؛ كم من الوقت مضى؟

وصلوا إلى المقهى؛ إقتربت من الواجهة الزجاجية فى سرعة و تردد؛ وقفت أما الواجهة و إبتسمت؛ نظرت بشدة لمن فى الداخل؛ ثم تراجعت فى بطء رائية نفسها و هى فى السادسة عشر؛ و تحسست وجهها؛ ثم نظرت إلى العجوز فى خيبة أمل كل ما كانت تأمله هو بضعة لحظات من السكون و رؤية الماضى؛ كانت رائحة الشارع عبارة عن مزيج الأتربة المختلطة بماء المطر بعد توقفه؛ لم تلاحظ هذه الرائحة مع مشيها؛ ولكن مع توقفها فجأة إشتدت حتى الإختناق. تطلعت إلى السماء باحثة عن السحاب؛ كل ما أرادته هو رؤية بعض السحب مختلطة بالسماء؛ للأسف؛ كل ما رأته فوقه هو سحاب كثيف مختلط فى قبح؛ فبدأت النظر فى تردد إلى جميع المناظر المحيطة بها؛ العجوز؛ الواجهة؛ السماء؛ الطريق المؤدى إلى البيت.

العجوز: ما بك يا صغيرتى؟

المرأة: لقد مر الوقت بسرعة شديدة

العجوز: حتى و لو مر الوقت؛ أتعلمى؛ إمحى من ذاكرتك كل شىء إلا اللحظات السعيدة منها؛ فهذه اللحظات هى ما تجعلنا نستمر بهذه الحياة

المرأة: من الممكن أن الحياة محتاجة لبعض من الإيمان؛ بالتأكيد الحياة لازالت جميلة؛ قد لا أكون متأكدة من أى شىء فى حياتى؛ لكنى متأكدة من أن الحياة لازالت جميلة؛ حتى و لو كانت حزينة بعض الشىء.

ضمها العجوز إلى صدره بقوة لكن بلطف: هناك عدة أسئلة أسألها لنفسى؛ لو مت غداً؛ هل سأموت سعيد؟ و من هنا أبدأ ان أفعل كل ما أستطيع أن أفعله لأعيش سعيداً؛ لنعيش سعداء يا صغيرتى من الآن فصاعد. إبتسما و غادروا.



*****
منزل أدهم بعد أسبوع

دق جرس الباب؛ فتحه أدهم ليرى عزة أمامه.

أدهم: كنت أعلم إنك ستلبى دعوتى ( إبتسامة)
عزة: لماذا؟
أدهم: (إبتسامة) إحساسى الداخلى.

خلعت عزة معطفها؛ أعطته لأدهم و بدأت النظر إلى جميع أركان الغرفة؛ الأثاث بسيط لكنه عتيق؛ تبدو الغرفة فى بعض الأركان خالية إلا من بعض المناضد؛ أشياء صغيرة مرتبة عليها بشكل عشوائى مقصود؛ أشياء كان يلتف بها طفل؛بعض اللوحات معلقة تحت إضاءة بسيطة؛ الصور الفوتوغرافية المعلقة فى بعض جوانب الغرفة لأشخاص من زمن ماضى؛. إنها هذه الأشياء الصغيرة التى تضفى أمل لحياته. توقفت عزة أمام بعض من اللوحات.

عزة (بسخرية): و هل يا ترى هل تعرف معنى هذه اللوحة؟
أدهم مناولاً إيها عصير: تفضلى؛ هل من المهم أن أعرف معناها؟ المهم إننى أشعر بها و على أى حال؛ هذه اللوحة رسمها حسن سليمان بألوان مائية؛ و هى تعبر عن.......
عزة مقاطعة: لم أسألك عن هذا؛ تعود من الآن فصاعد أن تتعلم أن تجاوب عن الأسئلة الموجهة إليك؛ هذا بجانب لا تستعرض نفسك فى إجابتك ( إبتسامة)
أدهم (خجل): حاضر

تناولت عزة العصير من أدهم؛ أكملت نظرة بسيطة على الغرفة ثم جلست.

أدهم (محدثاً نفسه): سأرى ما بمكن السماع إليه. ألقى أدهم نظرة على إسطوانته و هو يتمتم بألحان غير مفهومة. نعم؛ وجدتها؛ بوسا نوفا؛ فلنستمع إذن لتوم جوبيم. أخذ أدهم كأسه و ذهب ليجلس على كرسيه المفضل.

أدهم (إبتسامة): كيف حالك؟
عزة ( تهكم) بخير. أدهم؛ من هؤلاء؛ أقصد الصور المعلقة؟
أدهم: هذه الصور المعلقة هى المتنفس الوحيد فى حياتى؛ صورها و صورهم؛ النظر إليها يضفى راحة ما؛ كالحلم و أنت يقظ؛ تتمنى أن يدوم للأبد!

-صمت-

أدهم: عزة...ما رأيك فى أن نلعب لعبة؟ أنت تسألينى و أنا أجاوب؟ لماذا نلعبها؟ و لما لا؟ (إبتسامة)

عزة: أنت تعلم يا أدهم انك طفل كبير؛ هذا ما يثبر حقد الناس عليك و إحتقارهم لك فى نفس الوقت؛ فكونك طفل هو ما يثير حقدهم؛ فبداخلهم؛ ربما يريدوا أن يصبح مثلك؛ أحرار و طلقاء؛ كذلك انت تمثل تحدى لكل الأعراف التى يتعايشونها

أدهم: أعتقد إنك ربما محقة؛ و لذلك أنا أمقتهم كلهم...أمقت كل الأشياء الزائفة التى نعيشها فقد أصبح العالم الذى نعيش فيه كالسيرك؛ المشكلة إنه ليس مضحك؛ الكل مصطنع؛ الكل يرسم الإبتسامة على شفتيه؛ الكل زائف؛ تخرج من بيتك؛ لأنك لا تستطيع العيش على روتينك اليومى؛ تذهب إلى السيرك؛ أياُ كانت شاكلته؛تشترى سعادتك فتضحك؛ تشعر بشىء من البهجة؛ بعد أن ينتهى السيرك؛ ترى أن وجهك عابس و تذهب إلى البيت؛ هنا يوجد إختياران؛ إما أن تأخذ من وقتك لحظة لتعيد أحلامك التى إنتهت أو تكمل طريقك إلى أن يحين وقتك.فعلى سبيل المثال؛ لنأخذ حياتك مع رائف؛ هى حياة زائفة بكل ما تعنيه الجملة من معانى......

عزة: لا تدع غرورك يقنعك بذكاء إصطناعى لا تملكه؛ حباتى مع رائف ليست زائفة! رائف هو الوحيد الذى إستطاع أن يشعر بى؛ كنت فى مرحلة ما من حباتى مؤرقة؛ أردت أن أؤمن بأن الغد أفضل و أصبحت حباتى الآن بسيطة؛ صغيرة و كاملة؛ بالطبع هناك بعض الأشياء المتعلقة بعملنا تسخف من حياتنا؛ و لكن بما إنها سخيفة؛ فهى تافهة! فى النهاية؛ أنا أحب زوجى و أحب حياتى!

أدهم: العين ترى ما يريد العقل أن يراه!

عزة: أنت سخيف و الجلوس معك أسخف!

أدهم:أنا أقول هذا من منطلق أن رائف مغرور؛ وقح و ذو دم خفيف؛ والده كان نحات مجنون و عبقرى؛ كإنسان؛ كان لا يطاق! العذر الوحيد لتقبل هذه التقلبات المزاجية هو عبقريته؛ أما ولده فلم يرث إلا تقلبات المزاج و جنون العظمة؛ و بالتالى لا يوجد عذر لتقبله كإنسان!

-صمت-

عزة: أنا راحلة!!
أدهم: أرجوك لا ترحلى؛ وجودك يعني الكثير لى؛ و على أى حال فلنغير الموضوع!

-صمت-

أدهم: حدثينى عن موقف جميل عن ماضيك.

عزة متنهدة: :جدتى كانت سيدة من سيدات الزمن الغابر؛ كانت تقول لى: تستطبعى أن تعلمى الكثير عن الرجل الماثل أمامك من رؤيتك لجوربه؛ مهندم و مهذب؛ مهندم لكن مدًعى؛ سوقى أو صعلوك

أدهم: أنت تعلمى إن فى كل مرة سأقابل أى رجل؛ أول شىء سأفعله هو النظر إلى جواربه ( إبتسامة)

عزة )مبتسمة): أدهم...لماذا تكتب؟

أدهم: :أكتب لأن أنا أنانى؛ أكتب لكى يشعر الناس بى؛
عزة: السؤال هو؛ هل تشعر أنت بنفسك؟

-صمت-

أدهم: أتعلمى؛ فى بعض الاحيان أشعر إننى كالهروين؛ المشهد رائع حينما تراه يتطابر فى السماء و مع نزوله البطىء مرةً أخرى؛ تشعر :كأنك تشاهد فيلم بتصوير بطىء؛ لا تملك إلا الإبتسام أو الضحك من فرط السعادة؛ تأخذ نفس عميق؛ سريع؛ و يخرج زفير اللذة؛ و ترقد فى خمول؛ تريد دوم هذا الشعور؛ لكن؛ الحقيقة المؤلمة؛ هى أن كل هذا زائف! مع بدأ الشعور بالألم؛ تود لو إنك لم تستنشقه و تندم على هذا الشهيق؛ الآن؛ يوجد إختياران؛ إما أن تقوم بالتكرار حتى تأتى التعاسة الدائمة؛ أو أن يتوقف هذا المسحوق عن البقاء

عزة: إذا؛ فهذا هو حب التدمير الذاتى؛ هذا ما نحن بصدده؛ أهذا هو ما يريحك؟ أنت مثير للشفقة! و على فكرة؛ لم أفهم القصة التى كتبتها عن الرجل و الفتاة.

-صمت-

أدهم: هل شعرت بها؟

عزة: أعتقد؛ أعتقد إنك كاتب موهوب؛ لماذا لا تكتب عن الواقع؟

أدهم: و لماذا أكتب عن الواقع؟ الواقع ممل!

-صمت-

أدهم: عزة؛ أنا أعلم إنك تعلمى إننى أريدك ( إبتسامة)

عزة: المشكلة إنك أتيت فى وقت كل شىء فيه على ما يرام مع رائف؛ قليل من البشر شعرت لهم بأحاسبس غير سطحية؛ و لا أعلم لماذا أنت بالذات؛ فبرغم كونك شخص أشبه بمهرجى السيرك؛ و لكن أنت واحد منهم.

أدهم: (ضحكة) كلهن يقولن ذلك. أتريدين كأس أخر؟

عزة: لا؛ لم أشرب منذ البداية

أدهم: سأصب لنفسى إذن. ذهب أدهم إلى البار؛ ظهره مواجه لعزة: أنت تعلمى جيداَ السيدات لا يكتفن من الإنتباه. لا مانع دائما ( ضحكة)

عزة: المشكلة إنك ساذج؛ ألا تعلم إننى كنت عالمة بصراع الديوك السخيف هذا بينك و بين رائف؟ أدهم؛ أنا لا أحب الشرب؛ و خاصة بكثرة فى هذا الوقت من اليوم!

أدهم (إبتسامة): إذاً لا تشربى يا عزيزتى! أنا أشرب لأنسى؛ أو أنسى فأشرب فأتذكر!
عزة: لم أسألك!
أدهم (ضحكة): معك حق!

-صمت-

أدهم : لازلت أريدك
عزة: (بسخرية)ألم تجد طريقة أقل سذاجة من هذه لتقولها؟
أدهم: (بسخرية مماثلة)ألا تعتقدى إنى أعلم إنها ساذجة؟
عزة: و إن رفضت؟
أدهم: ستكونى الخاسرة ( ضحكة)
عزة: ها ها ها..ما كل هذه الثقة؟

-صمت-

عزة: لما تنظر بهذه الطريقة؟ أتظن إننى سأخضع فى النهاية؟
أدهم: نعم. وضع أصابعه على شفتيها فى إشارة للصمت؛ إقتربت شفتيه من شفتيها؛ أغمضوا أعينهم و قبلها

******
مكتب رائف بعد عدة أشهر

رائف ؛ ناظراً إلى الكتب الموضوعة فى المكتبة أمامه لدقائق عدة؛ يدخن سيجارة تلو الأخرى؛ بين الحين و الآخر ينظر إلى قداحته؛ يشعلها و يطفئها؛ يشعلها و يطفئها؛ ثم يكمل النظر إلى باقى أنحاء الغرفة و خاصةً الكتب.

أدهم يترجل السلالم فى سرعة لكنها محكمة؛ حتى يرى رائف جالساً. ما بك؟ ماذا حدث؟ لم إستدعيتنى على وجه السرعة؟

رائف ناظراً إلى السيجارة: لما يقولون إنها بغيضة؟ أتعلم؟ لم أكن أدخن؛ طالما مقت هذا الشعور بالخمول خاصةُ فى قلة ممارسة الرياضة؛ و الأهم هو الشعور بالإدمان؛ لكن بسبب هذه السيجارة اللعينة؛ أصبحت ما أنا عليه الآن! كنت واقفاٌ أمام المكتبة منتظر صديقى و فجأة خرج صاحب دار النشر و سألنى إن كان معى سيجارة؛ و بدون أن أفكر
: طبعاُ!! سأحضرها من الداخل. و ذهبت لشراء علبة على الفور؛ بدأنا فى الكلام؛ أخبرته عن نفسى و خبرتى فى صحيفة الجامعة....إلخ و إنتهى الأمر بأننى؛ بسيجارة؛ أصبحت صاحب أكبر دور نشر. بالطبع والدى كان فناناً عظيم؛ أردت دوما أن أصبح مثله؛ بدأت النحت فالرسم ثم الموسيقى؛ فشلت فشلاً ذريعاً إلى أن وجدت أننى بارع فى فن إدارة الموارد البشرية؛ و هو فن من لا موهبة له؛ فن جعل الناس يفعلون مالا ترغب أنت فى فعله.

أدهم: ما بك؟
رائف يقف و يبدأ فى المشى عبر الغرفة: أعتقد...أعتقد أننى أفقد عزة؛ أنا أعرف إنى أحياناً لا أطاق؛ هكذا هو حال كل البشر؛ مهما بدوا فى غاية الجمال من الداخل والخارج؛ هناك شىء ما قد ينغص العيش معهم؛ السؤال قد يكون هل تتحمل أنت العيش معهم أم لا؟ المشكلة لا تكمن فى إنها تقابل رجل آخر؛ المشكلة هى أنها سترى أن فى هذا الشخص بعض الخصال التى تنقصنى و بالتالى؛ ستنجذب إليها؛ هذا هو حال البشر؛ ستنسى ما عندى و تتذكر ما ليس عندى؛ هذا هو أسهل شىء عند البشر؛ لأنها لكى تتذكر؛ يجب أن تفكر؛ و لتفكر؛ يجب أن تبذل مجهود؛ و أحياناً كبشر؛ نأخذ الطريق الأسهل.

أدهم: أنا.....
رائف: لا تتحدث؛ أنت هنا لتستمع؛ لا أريد نصائح.

-صمت-

رائف:أتعلم؛ طالما أحببت أن أسبر أغوار النفس البشرية بالذات مع من يفتح لى قلبه؛ تعلمت مع مرور الوقت ليس فقط إنى موهوب فى معرفتها أشد المعرفة؛ و لكنى تعلمت أيضاً أن أحبها؛ كل الوقت ينشد الجميع الكمال؛ أى كانت صورته؛ لكنى لا أنشده بل و أكرهه؛ أنا أحب الأجزاء الغير كاملة فخيالى يساعدنى على شغف التطلع إلى النهاية و هذا هو ما يساعدنى على البقاء حياً. أم من لا يفتح لى قلبه؛ أمقته و أمتعض من رؤيته. أرجو أن أكون محقاً فى معرفتى بك. الآن بمكنك أن تمضى يا صديقى.

نظر أدهم إليه فى تمعن: أرجو أننى كنت مستمع جيد. وقف ثم سار تجاه السلالم.

رائف: أحياناً الصمت مطلوب فالصمت يجعلنا نفهم بطريقة أفضل.

*****
بعد عدة أشهر فى المستشفى

الأشجار العارية الشبه الميتة المتراصة بجانب بعضها البعض؛ تضيف لمحة من السكون؛ السكون المختلط بصفة ليست كافية لتكون رهبة و ليست قليلة لتكون إحترام؛ ترى هذا الجمال الساكن و تتطلع إليه فى صمت. وقف أدهم قليلاً فى حديقة المستشفى؛ أكمل سيجارته؛ تنهد ثم عبر إلى ساحة الإستقبال؛ تحدث قليلاٌ مع الممرضة ثم ذهب إلى الحديقة الخلفية حيث ساحة الزوار. أباه جالس فى مقعده فى صمت؛ مواجهاً مبنى المستشفى. كل ما فى وسعه الآن؛ هو أن ينظر إلى أباه و فى صمت.

أدهم (فى بطء): صباح الخير
الأب: لماذا أتيت؟
أدهم: أتيت لكى....أراك؛ لأننا إفترفنا منذ مدة طويلة.
الأب: أنت تعلم يا بنى؛ عندما نفترق؛ يموت جزء منا

-صمت-

الأب: أنا لم أختار الحياة التى عشتها؛ أو ربماً إختارتها؛ لكنك أنت قررت أن نفترق؛ لأسباب لا يهمنى معرفتها و قررت و إختارت أيضاُ أن تتناول أجزاء من حياتى فى قصصك و أشعارك؛ فى البداية شعرت بفراقى عنك يزداد يوم بعد يوم إلى أن أصبح الأمر لا يهمنى بل و لا أريد معرفة اى أسباب. فقط أريد أن أتابع ما تبقى من حياتى فى سلام.

أدهم: أنا لم إختار شىء! ماذا عن الإختيارات التى لا شأن لنا بها؛ سواء أن كانت هذه الإختيارات إختيارات قوى عليا أو حظ تعس؛ لا يهم؛ المهم هو ماذا عن هذه الإختيارات؟ حادث أليم يتوفى فيه شخص؛ السبب سائق مخمور فقد السيطرة؛ ساقى الخمر أعطاه جرعة زائدة لكى يشرب السائق مراراً و تكراراً؛ أراد البائع بذلك بقشيش زائد؛ زوجة الساقى متطلبة و المصروفات أكثر تطلباُ..إذاً على من يقع اللوم؟ نفسك؟ أم الإختيارات؟ و أى إختيارات؟ السائق صاحب المزاج؛ ام الساقى المذعن لمتطلبات زوجته؟ ام الحياة التعسة التى نعيشها؟ أم القوى العليا ؛ تلك القوى التى ربما رسمت لنا الطريق قبل أن نتخذه.

الأب: أعتقد أن فى هذه الحالة يجب أن نلوم أمك!! أمك التى علمتك أن تنطق بكلام أبله متجسد فى جسد قرد يتباها لمرأى الموز أمام أصدقاءه القردة الملاعين كلما أمسك بواحدة؛ للأسف؛ ستظل غير ناضج و أبله!

-صمت-

الأب (بعصبية): لماذا أتيت؟ هل أنت باحث عن الخلاص؟ أم أتيت لتثبت أن ما تكتبه قد يغير الحقيقة و يجعل حياتك التعيسة أجمل؟ إعلم أن ما تكتبه هو فقط؛ خيال! الحقيقة هنا؛ فى هذا الحياة؛ و مهما فعلت؛ فلن تغير شىء. إمضى فى طريقك يا بنى.

أبعد أدهم عينيه عن والده؛ مكث عدة لحظات هكذا؛ أشاح بوجه؛ ثم إستدار و غادر المكان.

*****
منزل أدهم؛ قبل اليوم الأول

فتح أدهم الشباك؛ ناظراً إلى الشارع و العابرين ثم تنهد و عاد تجاه منضدته؛ أمسك قلمه و بدأ فى كتابة بعض الكلمات بدون تكوين أى جملة محددة؛ ثم بدأ فى التحدث إلى نفسه.

: إلى أى مدى أثر الجنون فيك يا أدهم؟ أعنى والدك شخٍص مجنون و كذلك جدك؛ أنت تعلم إن الوجود الحق و الوحيد؛ هو الوجود الإنسانى فكل ما هو خارج عن ذاتك فهو ليس منك و لا إليك؛ و كل ما هو لك حقاً هو عندك و معك؛ و ما فى وسع شيئ أن يعطيك شيئاً ؛ و لا أن يسلبك شيئاً؛ لا...لا...أعتقد أن بعض الأشياء لا يجب أن تقال؛ لا أعرف.

طار كائن صغير؛ أخضر اللون و وقف على سطح مكتب أدهم؛ تأمله أدهم؛ حاول أن يلمسه فطار.

*****
النهاية
.